الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والحق تبارك وتعالى يضرب لنا مثلًا لإنكار الجميل في قصة سيدنا موسى عليه السلام: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].فقد اتهمه قومه وقعدوا يقولون فيه كذبًا وبُهْتانًا، فقال موسى: يا ربّ أسألك ألاَّ يُقَال فيَّ ما ليس فيَّ.. فقال تعالى لموسى: أنا لم افعل ذلك لنفسي، فكيف أفعلها لك؟ ولماذا لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه؟.. لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ليعطينا نحن أُسْوة في تحمُّل هذا الإنكار، فقد خلق الله الخَلْق ورزقهم ووَسِعهم، ومع ذلك كفروا به، ومع ذلك ما يزال الحق سبحانه خالقًا رازقًا واسعًا لهم.إذن: في الآية تقنين وأمان للمجتمع أن يتفشى فيه مرض الزُّهْد في عمل الخير.وقول الحق سبحانه: {بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54].تشمل الآية مَنْ أنكر الجميل من المؤمنين، ومن الكافرين.ولكن لماذا يشركون؟يقول الحق تبارك وتعالى: {لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ}.أي: مُسْتعظمين كقارون الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي} [القصص: 78].أخذتُ هذا بَجْهدي وعملي.، ومثله مَنْ تقول له: الحمد لله الذي وفَّقك في الامتحان، فيقول: أنا كنت مُجِدًا.. ذاكرتُ وسهرتُ.. نعم أنت ذاكرتَ، وأيضًا غيرك ذاكر وجَدَّ واجتهد، ولكن أصابه مرض ليلة الامتحان فأقعده، وربما كنت مثله.فهذه نغمة مَنْ أَنكر الفضل، وتكبَّر على صاحب النعمة سبحانه.وقوله: {لِيَكْفُرُواْ} [النحل: 55].هل فعلوا ذلك ليكفروا، فتكون اللام للتعليل؟ لا بل قالوا: اللام هنا لام العاقبة.، ومعناها أنك قد تفعل شيئًا لا لشيء، ولكن الشيء يحدث هكذا، وليس في بالك أنت.. إنما حصل هكذا.ومثال هذه اللام في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبنَّاه وربَّاه، هل كان يتبناَّه ليكون له عدوًا؟ لا.. إنما هكذا كانت النهاية، لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مُغفَّلين، وأن الله حالَ بين قلوبهم وبين ما يريدون.. إذن: المسألة ليستْ مرادة.. فقد أخذْته وربَّيته في الوقت الذي تقتل فيه الأطفال.. ألم يخطر ببالك أن أحدًا خاف عليه، فألقاه في البحر؟!لذا يقول تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].وكذلك أم موسى: {وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7].كيف يقبل هذا الكلام؟ وأنَّى للأم أن ترمي ولدها في البحر إنْ خافت عليه؟! كيف يتأتَّى ذلك؟! ولكن حالَ الله بين أم موسى وبين قلبها، فذهب الخوف عليه، وذهب الحنان، وذهبت الرأفة، ولم تكذّب الأمر الموجّه إليها، واعتقدت أن نجاة وليدها في هذا فألقتْه.وقوله: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55].أي: اكفروا بما آتيناكم من النعم، وبما كشفنا عنكم من الضر، وتمتعوا في الدنيا؛ لأنني لم اجعل الدنيا دار جزاء، إنما الجزاء في الآخرة.وكلمة {تَمَتَّعُواْ} هنا تدل على أن الله تعالى قد يُوالي نعمه حتى على مَنْ يكفر بنعمته، وإلاَّ فلو حَجَب عنهم نِعَمه فلن يكون هناك تمتُّع.ويقول تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55].أي: سوف تروْنَ نتيجة أعمالكم، ففيها تهديد ووعيد. اهـ.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}.الخطاب عام، وقوله: {مِّنكُم} لأنَّ القومَ منهم.{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}.في هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامةٌ، ويعتذرون حين لا يُقْبَلُ لهم عُذْرٌ.، ومَنْ زَرَعَ شرًا فلن يَحْصُدَ إلا جزاء عَمَلهِ. اهـ.
أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل: إلهين اثنين، وقيل: إله واحد.قوله: {فإيَّايَ} منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ، أي: إياي ارهبوا فارْهَبون، وقدَّر ابنُ عطية ارهَبوا إيَّاي فارهبون. قال الشيخ: وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميرًا منفصلًا والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله: وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أولِ البقرة، وقد يُجاب عن ابنِ عطية: بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في الأمورِ اللفظيةِ، وفي قوله: {فإيَّايَ} التفاتٌ من غَيْبة وهي قوله: {وَقَالَ الله} إلى تكلُّمٍ وهو قوله: {فإيَّاي} ثم التفت إلى الغِيْبة أيضًا في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السماوات}.{وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}.قوله تعالى: {وَاصِبًا} حالٌ من {الدِّين} العاملُ فيها الاستقرارُ المتضمِّنُ الجارُّ الواقعَ خبرًا، والواصِبُ: الدائم، قال حسَّان: وقال أبو الأسود: والوَصِبُ: العليلُ لمداوَمَةِ السَّقَمِ له، وقيل: مِنَ الوَصَبِ وهو التَّعَبُ، ويكون حينئذٍ على النَّسَب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأن الدينَ فيه تكاليفُ ومَشَاقُّ على العبادِ، فهو كقوله: أي: ذا فُتُوْن وقيل: الواصِبُ: الخالِصُ.وقال ابن عطية: والواوُ في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السماوات} عاطفةٌ على قوله: {إله وَاحِدٌ}، ويجوزُ أن تكونَ واوَ ابتداء. قال الشيخ: ولا يُقال واوُ ابتداء إلا لواوِ الحال، ولا تظهر هنا الحالُ. قلت: وقد يُطْلِقون واوَ الابتداء، ويريدون واوَ الاستئناف، أي: التي لم يُقْصَدْ بها عطفٌ ولا تَشْريكٌ، وقد نصُّوا على ذلك فقالوا: قد يُؤْتَى بالواو أولَ كلامٍ من غير قَصْدٍ إلى عَطفٍ، واسْتَدَلُّوا على ذلك بإتيانهم بها في أولِ قصائدِهم وأشعارِهم، وهو كثيرٌ جدًا، ومعنى قولِه عاطفة على قوله: {إله وَاحِدٌ}، أي: أنها عَطَفَتْ جملةً على مفرد، فيجبُ تأويلُها بمفردٍ لأنها عَطَفَتْ على الخبرِ فيكونُ خبرًا، ويجوز على كونِها عاطفةً أن تكونَ عاطفةً على الجملة بأسرها، وهي قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} وكأنَّ ابنَ عطية قَصَدَ بواوِ الابتداء هذا، فإنها استئنافيةٌ.{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}.قوله تعالى: {وَمَا بِكُم} يجوز في {ما} وجهان، أحدهما: أن تكونَ موصولةً، والجارُّ صلتُها، وهي مبتدأٌ، والخبرُ قوله: {فَمِنَ الله} والفاء زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ، تقديره: والذي استقرَّ بكم، و{مِّن نِّعْمَةٍ} بيان للموصول، وقدَّر بعضُهم متعلِّق {بكم} خاصًَّا فقال: وما حَلَّ بكم أو نزل بكم وليس بجيدٍ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ.والثاني: أنها شرطية، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء. قال الفراء: التقدير: وما يكنْ بكم، وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد {إنْ} خاصةً، في موضعين، أحدُهما: أن يكون في باب الاشتغال نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6]. لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ، والثاني: أن تكونَ {إنْ} متلوَّةً ب {لا} النافية، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله: أي: وإن لا تُطَلِّقْها، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله: فَطَلِّقْها عليه فإن لم توجَدْ {لا} النافيةُ، أو كانت الأداةُ غيرَ {إنْ} لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً، مثالُ الأول: أي: وإن كان غنيًا رَضِيْتُه، ومثالُ الثاني: وقول الآخر: قوله: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الفاء جوابُ {إذا}، والجُؤار رَفْعُ الصوتِ، قال رؤبة يصفُ راهبًا: ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة، وأنشد الزمخشري: وقيل: الجُؤَار كالخُوار، جَأَر الثورُ وخارَ واحد، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها، وقال الراغب: جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع، تشبيهًا بجُؤَارِ الوَحْشِيَّات.وقرأ الزهري: {تَجَرون} بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها، كما قرأ نافع: {رِدًَّا} في {رِدْءًا}.{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}.قوله تعالى: {إِذَا كَشَفَ} {إذا} الأولى شرطيةٌ والثانيةُ فجائية جوابُها، وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ {إذا} الشرطية لا تكونُ معمولةً لجوابها؛ لأنَّ ما بعد {إذا} الفجائية لا يعمل فيما قبلَها.وقرأ قتادة {كاشَفَ} على فاعَلَ. قال الزمخشري: بمعنى فَعَل، وهو أقوى مِنْ {كَشَفَ} لأنَّ بناء المغالبةِ يدلُّ على المبالغة.قوله: {منكم} يجوز أن يكونَ صفةً ل {فريق} و{مِنْ} للتبعيض، ويجوز أن تكونَ للبيان. قال الزمخشري: كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم.{لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}.قوله تعالى: {لِيَكْفُرُواْ} في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها لامُ كي، وهي متعلقةٌ ب {يُشْركون}، أي: إنَّ إشراكهم سببُه كفرُهم به. الثاني: أنها لامُ الصيرورةِ، أي: صار أمرُهم إلى ذلك. الثالث: أنها لامُ الأمرِ، وإليه نحا الزمخشريُّ.وقرأ أبو العالية ورواها مكحول عن أبي رافع مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم: {فَيُمْتَعُوا} بضمِّ الياء مِنْ تحتُ، ساكنَ الميم مفتوحَ التاء، مضارعَ مُتِع مبنيًا للمفعول. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بالياء مِنْ تحتُ أيضًا، وهذا المضارع في هذه القراءةِ يجوز أن يكونَ حَذْفُ النونِ فيه: إمَّا للنصبِ عطفًا على {ليكفروا} إنْ كانت لامَ كي، أو للصيرورة، وإمَّا للنصبِ أيضًا، ولكنْ على جوابِ الأمر إنْ كانت اللامُ للأمر، ويجوز أن يكونَ حَذْفُها للجزم عَطْفًا على {لِيَكْفُروا} إن كانت للأمر أيضًا. اهـ.
|